شَرْحُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
لِأَبِي الْعَبَّاسِ حَرْمِيْنَ بْنِ سَلِيْمٍ اللِّمْبُوْرِيِّ الْأَنْدُوْنِيْسِيِّ
رَحِمَهُ اللهُ
(الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 1434)
تَأْلِيْفُ: أَبِيْ أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلِيْمٍ اللِّمْبُوْرِيِّ عَفَا اللهُ عَنْهُ
الْمُقَدِّمَةُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذَا شَرْحٌ مُخْتَصَرٌ، قَصَدْتُ بِهِ الزُّلْفَى إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ شَرْحُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأُسْتَاذِنَا الرَّبَّانِيِّ أَبِي الْعَبَّاسِ حَرْمِيْنَ بْنِ سَلِيْمٍ اللِّمْبُوْرِيِّ الْأَنْدُوْنِيْسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.
وَأَرْجُو أَنْ أَسْتَحِقَّ بِهِ رِضَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيْمِ وَصَوَابًا مُوَافِقًا لِلْحَقِّ وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُبَارَكًا أَيْنَمَا كَانَ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ.
وَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِيْنَ.
كَتَبَهُ الْفَقِيْرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ الْغَفُوْرِ أَبُوْ أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلِيْمٍ اللِّمْبُوْرِيُّ
فِيْ مَسْجِدِ السُّنَّةِ بِسَعَوَانَ-صَنْعَاءَ، 8/5/1435 مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلِ الصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (اللهِ)، عَلَمٌ عَلَى الْبَارِيِّ، وَأَصْلُهُ الْإِلَهُ.
قَالَ أَبُوْ جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ: “اللهُ” أَصْلُهُ “الْإِلَهُ” أُسْقِطَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْاِسْمِ فَالتِّقَتِ اللَّامُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْاِسْمِ وَاللاَّمُ الزَّائِدَةُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ فَأُدْغِمَتْ فِي الْأُخْرَى، فَصَارَتَا فِي اللَّفْظِ لاَمًا وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً. ["فَتْحُ الْمَجِيْدِ شَرْحُ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ" (ص: 7)].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَأَمَّا الْإِلَهُ فَهُوَ الْجَامِعُ لِجَمِيْعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَعُوْتِ الْجَلاَلِ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْاِسْمِ جَمِيْعِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الصَّحِيْحُ أَنَّ اللهَ أَصْلُهُ الْإِلَهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ سِيْبَوَيْهِ وَجُمْهُوْرِ أَصْحَابِهِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ وَأَنَّ اسْمَ اللهِ تَعَالَى هُوَ الْجَامِعُ لِجَمِيْعِ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى. ["بَدَائِعُ الْفَوَائِدِ" (2/249)].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وَاسْمُ اللَّهِ دَالٌّ عَلَى كَوْنِهِ مَأْلُوهًا مَعْبُودًا، تُؤَلِّهُهُ الْخَلَائِقُ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَخُضُوعًا، وَفَزَعًا إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَالنَّوَائِبِ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ رُبُوبِيَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ، الْمُتَضَمِّنَيْنِ لِكَمَالِ الْمُلْكِ وَالْحَمْدِ، وَإِلَهِيَّتُهُ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَرَحْمَانِيَّتُهُ وَمُلْكُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ كَمَالِهِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ ذَلِكَ لِمَنْ لَيْسَ بِحَيٍّ، وَلَا سَمِيعٍ، وَلَا بَصِيرٍ، وَلَا قَادِرٍ، وَلَا مُتَكَلِّمٍ، وَلَا فَعَّالٍ لِمَا يُرِيدُ، وَلَا حَكِيمٍ فِي أَفْعَالِهِ. وَصِفَاتُ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ: أَخَصُّ بِاسْمِ اللَّهِ. ["مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ" (1/56)].
وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نَسْتَعِيْنَ بِهِ وَنَدْعُوْهُ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَمَا فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الْأَعْرَافُ: 180].
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ)، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الْعَزْمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ): الرَّحْمَنُ بِجَمِيْعِ الْخَلْقِ وَالرَّحِيْمِ بِالْمُؤْمِنِيْنَ”. [رَوَاهُ ابْنُ جَرِيْرٍ (1/55)].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: فَالرَّحْمَنُ الَّذِي الرَّحْمَةُ وَصْفُهُ، وَالرَّحِيمُ الرَّاحِمُ لِعِبَادِهِ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الْأَحْزَابُ: 43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةُ: 117]، وَلَمْ يَجِئْ: رَحْمَنُ بِعِبَادِهِ، وَلَا رَحْمَنُ بِالْمُؤْمِنِينَ، مَعَ مَا فِي اسْمِ الرَّحْمَنِ الَّذِي هُوَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَانِ مِنْ سِعَةِ هَذَا الْوَصْفِ، وَثُبُوتِ جَمِيعِ مَعْنَاهُ الْمَوْصُوفِ بِهِ. ["مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ" (1/56)].
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْحَمْدُ هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَحَاسِنِ الْمَحْمُودِ مَعَ الْمَحَبَّةِ لَهُ”. ["مَجْمُوْعُ الْفَتَاوَى" (6/259)].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: فَإِنَّ الْخَبَرَ عَنِ الْمَحَاسِنِ إِمَّا مُتَكَرِّرٌ أَوْ لاَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ فَهُوَ الثَّنَاءُ وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ فَهُوَ الْحَمْدُ، فَإِنَّ الثَّنَاءَ مَأْخُوْذٌ مِنَ الثَّنْيِ وَهُوَ الْعَطْفُ، وَرَدَ الشَّيْءُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَمِنْهُ ثَنَيْتُ الثَّوْبَ، وَمِنْهُ التَّثْنِيَةُ فِي الْاِسْمِ فَالْمُثْنِيُّ مُكَرَّرٌ لِمَحَاسِنَ مَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَمِنْ جِهَةِ اعْتِبَارِ حَالِ الْمُخْبِرِ يَنْشَأُ التَّقْسِيْمُ إِلَى الْمَدْحِ وَالْحَمْدِ، فَإِنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ مَحَاسِنِ الْغَيْرِ إِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِإِخْبَارِهِ حُبٌّ لَهُ وَإِجْلاَلٌ أَوْ لاَ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الْحُبُّ فَهُوَ الْحَمْدُ وَإِلاَّ فَهُوَ الْمَدْحُ، فَحَصَلَ هَذِهِ الْأَقْسَامُ وَمَيَّزَهَا ثُمَّ تَأَمَّلْ تَنْزِيْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيْمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ يَقُوْلُ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ}، فَيَقُوْلُ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ} قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي لِأَنَّهُ كَرَّرَ حَمْدُهُ، فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ} قَالَ: مَجْدَنِي عَبْدِي، فَإِنَّهُ وَصَفَهُ بِالْمَلِكِ وَالعَظَمَةِ وَالْجَلاَلِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُوْ دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ). ["بَدَائِعُ الْفَوَائِدِ" (2/95)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (رَبِّ الْعَالَمِيْنَ)، فَالرَّبُّ هُوَ السَّيْدُ الَّذِي لاَ شِبْهَ لَهُ، وَلاَ مِثْلَ فِيْ سُؤْدَدِهِ، وَالْمُصْلِحُ أَمْرُ خَلْقِهِ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَالْمَالِكُ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. ["تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ" (1/142)].
قَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ: وَلَا يُسْتَعْمَلُ الرَّبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ، بَلْ بِالْإِضَافَةِ تَقُولُ: رَبُّ الدَّارِ رَبُّ كَذَا، وَأَمَّا الرَّبُّ فَلَا يُقَالُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ”. ["تَفْسِيْرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ" (1/131)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْعَالَمِيْنَ)، جَمْعُ عَالَمٍ، وَهُوَ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْعَالَمُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْعَوَالِمُ أَصْنَافُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَكُلُّ قَرْنٍ مِنْهَا وَجِيْلٍ يُسَمَّى عَالَمًا أَيْضًا. ["تَفْسِيْرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ" (1/131)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الصَّلاَةُ) هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الرَّسُوْلِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ وَإِظْهَارُ شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَحُرْمَتِهِ. ["جَلاَءُ الْأَفْهَامِ" (ص: 161)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (السَّلاَمُ) مَعْنَاهُ: النَّجَاةُ مِنَ الشُّرُوْرِ وَالعُيُوْبِ.
وَالسَّلاَمُ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالدَّلِيْلُ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. [الْحَشْرُ: 23].
الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَالدَّلِيْلُ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. [الْأَحْزَابُ: 56].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ نَسَبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلِنَسَبِهِ مِنَ الشَّرَفِ أَعْلَى ذِرْوَةٍ، وَأَعْدَاؤُهُ كَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا شَهِدَ لَهُ بِهِ عَدُوُّهُ إِذْ ذَاكَ أبُوْ سُفْيَانَ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الرُّومِ، فَأَشْرَفُ الْقَوْمِ قَوْمُهُ، وَأَشْرَفُ الْقَبَائِلِ قَبِيلَتُهُ، وَأَشْرَفُ الْأَفْخَاذِ فَخِذُهُ.
فَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ. إِلَى هَاهُنَا مَعْلُومُ الصِّحَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّسَّابِينَ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَمَا فَوْقَ “عَدْنَانَ” مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ أَنَّ “عَدْنَانَ” مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ["زَادُ الْمَعَادِ فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ" (1/70-71)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (آلِ) يَعنِي أَهْلَ بَيْتِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذُرِّيَّتَهُ وَأَزْوَاجَهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ». [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1485)، وَمُسْلِمٌ (1069) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ].
وَقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَعْذِرُنَا فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْ أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا»، [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2637)].
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَهْلِ بَيْتِي) يَعْنِي عَائِشَةَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (وَصَحْبِهِ) يَعْنِي مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لَقِيَهُ، أَوْ رَآهُ، مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ.
أَقْسَامُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ:
(1) الْحُكْمُ التَّكْلِيْفِيُّ.
(2) وَالْحُكْمُ التَّخْيِيْرِيُّ.
(3) وَالْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْحُكْمُ)، مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُكَ: حَكَّمْتُ الرَّجُلَ تَحْكِيْمًا، إِذَا مَنَعْتُهُ مِمَّا أَرَادَ، وَحَكَمْتُ السَّفِيْهَ بِالتَّخْفِيفِ وَأَحْكَمْتُهُ، إِذَا أَخَذْتُ عَلَى يَدِهِ.
أَنْشَدَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ لِجَرِيْرٍ:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا
وَسُمِّي الْقَاضِي حَاكِمًا، لِمَنْعِهِ الْخُصُومَ مِنَ التَّظَالُمِ. ["شَرْحُ مُخْتَصَرِ الرَّوْضَةِ" (1/247)].
الْحُكْمُ اصْطِلاَحاً: مَا اقْتَضَاهُ خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُفِيْدِ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ) هُوَ مَا رَجَعَ أَهْلُ الشَّرِيْعَةِ فِي الْعِلْمِ بِهِ إِلَى الشَّرِيعَةِ إِمَّا بِأَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ مُبْتَدِأَةً أَوْ بِإِمْسَاكِ الشَّرِيْعَةِ عَنْ نَقْلِهِ، فَكُلُّ مَا سَلَكَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ هَذَا الْمَسْلَكَ فَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَمَا لَمْ يَسْلُكُوْا فِيْهِ هَذَا الْمَسْلَكَ لَا يُسَمَّى حُكْمًا شَرْعِيًّا. ["الْمُعْتَمَدُ" (2/404)].
الْأَوَّلُ: الْحُكْمُ التَّكْلِيْفِيُّ
الْحُكْمُ التَّكْلِيْفِيُّ: هُوَ خِطَابُ اللهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِالْاِقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيْرِ. وَلَهُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ، وَمَنْدُوْبٌ، وَمُحَرَّمٌ، وَمَكْرُوْهٌ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (التَّكْلِيْفِيُّ)، أَي فِي التَّكْلِيْفِ، وَهُوَ لُغَةً: إِلْزَامُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَكُلْفَةٌ.
قَوْلُنَا: (إِلْزَامُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ)، وَالشِّقُّ وَالْمَشَقَّةُ وَاحِدٌ، وَهُوَ لُحُوْقُ مَا يُسْتَصْعَبُ بِالنَّفْسِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيْهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النَّحْلُ: 7] .
قَالَتْ الْخَنْسَاءُ فِي أَخِيْهَا صَخْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيْدِ:
يُكَلِّفُهُ الْقَوْمُ مَا نَابَهُمْ وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَهُمْ مَوْلِدَا
أَيْ: يُلْزِمُوْنَهُ ذَلِكَ بِحُكْمِ رِئَاسَتِهِ عَلَيْهِمْ.
وَالتَّكْلِيفُ شَرْعًا، أَيْ: فِي الشَّرْعِ: الْخِطَابُ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ. [انْظُرْ "شَرْحَ مُخْتَصَرِ الرَّوْضَةِ" (1/177)].
وَمِمَّنْ يَدْخُلُ فِي التَّكْلِيْفِ: كُلُّ بَالِغٍ، عَاقِلٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.
قَوْلُنَا: (بَالِغٍ) لَهُ ثَلاَثُ عَلاَمَاتٍ عِنْدَ الذَّكَرِ وَتُزَادُ عَلاَمَتَانِ عِنْدَ الْأُنْثَى: الْإِنْبَاتُ وَالْاِحْتِلاَمُ، وَبُلُوْغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَيُزَادُ عِنْدَ النِّسَاءِ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ. [انْظُرْ "قَطَفَاتٍ" لِشَيْخِنَا كَمَالِ بْنِ ثَابِتٍ الْعَدْنِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (ص: 116)].
وَمِمَّنْ يَخْرُجُ مِنْ حَدِّ التَّكْلِيْفِ: النَّاسِيُ، وَالْمُخْطِئُ، وَالنَّائِمُ، وَالصَّبِيُ، وَالْمَجْنُوْنُ.
قَوْلُنَا: (النَّاسِيُ، وَالْمُخْطِئُ)، وَالدَّلِيْلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَةُ: 286].
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ النَّاسِيَ وَالْمُخْطِئَ إِنَّمَا عُفِيَ عَنْهُمَا بِمَعْنَى رُفِعَ الْإِثْمُ عَنْهُمَا، لِأَنَّ الْإِثْمَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَالنَّاسِي وَالْمُخْطِئُ لَا قَصْدَ لَهُمَا، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا رَفْعُ الْأَحْكَامِ عَنْهُمَا فَلَيْسَ مُرَادًا مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَيُحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهَا وَنَفْيِهَا إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ. ["جَامِعُ الْعُلُوْمِ وَالْحِكَمِ" (2/369)].
وَقَوْلُنَا: (وَالنَّائِمُ، وَالصَّبِيُ، وَالْمَجْنُوْنُ)، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَكَذَلِكَ الْمَجَانِيْنُ وَالْأَطْفَالُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ». وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. ["مَجْمُوْعِ الْفَتَاوَى" (11/191)].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: “الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ “التَّكْلِيفُ الشَّرْعِيُّ” هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْمُمْكِنِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَلَا تَجِبُ الشَّرِيعَةُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْعِلْمُ كَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْل”. ["مَجْمُوْعِ الْفَتَاوَى" (10/344)].
الْمَجْنُونَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفِ، لِعَدَمِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ. [انْظُرْ "شَرْحَ عُمْدَةِ الْفِقْهِ لِأَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْحَرَّانِيِّ" (2/118)].
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَقْوَالُ فِي الشَّرْعِ لَا تُعْتَبَرُ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالطِّفْلُ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ فَأَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ فِي الشَّرْعِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْأَقْوَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ النَّائِمُ إذَا تَكَلَّمَ فِي مَنَامِهِ فَأَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ سَوَاءٌ تَكَلَّمَ الْمَجْنُونُ وَالنَّائِمُ بِطَلَاقِ أَوْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الطِّفْلِ؛ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَالنَّائِمَ إذَا أَتْلَفَ مَالًا ضَمِنَهُ وَلَوْ قَتَلَ نَفْسًا وَجَبَتْ دِيَتُهَا كَمَا تَجِبُ دِيَةُ الْخَطَأِ. ["مَجْمُوْعِ الْفَتَاوَى" (14/115)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ)، فَخَرَجَ عَنْهُ مِثْلُ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، لَكِنْ لَا بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ طَلَبُ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَوْ تَخْيِيرِهِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. فَوَرَدَ بِسَبَبِ ازْدِيَادِ قَيْدِ الِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ عَلَى عَكْسِ الْحَدِّ كَوْنُ الشَّيْءِ دَلِيلًا، كَدُلُوْكِ الشَّمْسِ لِلصَّلَاةِ، وَسَبَبًا، كَالزِّنَا لِوُجُوبِ الْحَدِّ، أَوْ شَرْطًا، كَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا أَحْكَامٌ وَلَا يَصْدُقُ الْحَدُّ عَلَيْهَا: لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا اقْتِضَاءٌ وَلَا تَخْيِيرٌ. ["بَيَانُ الْمُخْتَصَرِ شَرْحُ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ" (1/326)].
الْوَاجِبُ
الْوَاجِبُ شَرْعًا هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِ طَلَبًا حَتْمًا، كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [الْبَقَرَةُ: 183].
الشَّرْحُ:
فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ مَأْخُوْذٌ مِنَ الْوُجُوْبِ، وَالْوُجُوْبُ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الثُّبُوتِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ»، أَيْ ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ وَزَالَ عَنِ الِاضْطِرَابِ.
وَعَلَى السُّقُوطِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أَيْ سَقَطَتْ. [انْظُرْ "أُصُوْلَ السَّرْخَسِيِّ" (1/111)، وَ"بَيَانَ الْمُخْتَصَرِ شَرْحَ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ" (1/332)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْوَاجِبُ شَرْعًا هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِ طَلَبًا حَتْمًا)، أَيْ: بِأَنِ اقْتَرَنَ طَلَبُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْتِيْمِ فِعْلِهِ، كَمَا إِذَا كَانَتْ صِيْغَةُ الطَّلَبِ نَفْسُهَا تَدُلُّ عَلَى التَّحْتِيْمِ، أَوْ دَلَّ عَلَى تَحْتِيْمِ فِعْلِهِ تَرْتِيْبُ الْعُقُوْبَةِ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ أَيِّ قَرِيْنَةٍ شَرْعِيَّةٍ أُخْرَى.
فَالصِّيَامُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الصِّيْغَةَ الَّتِي طَلَبَ بِهَا دَلَّتْ عَلَى تَحْتِيْمِهِ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَةُ: 183].
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: أَنَّهُ أَوْجَبَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. ["مَجْمُوْعُ الْفَتَاوَى" (25/116)].
وَإِيْتَاءُ الزَّوْجَاتِ مُهُورَهُنَّ وَاجِبٌ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النِّسَاءُ: 24].
وَقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النِّسَاءُ: 4].
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرَهُ: وَأَعْطُوا النِّسَاءَ مُهُورَهُنَّ عَطِيَّةً وَاجِبَةً، وَفَرِيضَةً لَازِمَةً. ["تَفْسِيْرُ الطَّبَرِيِّ" (6/380)].
وَإِقَامَةُ الصَّلاَةِ وَإِيْتَاءُ الزَّكَاةِ وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَأْمُوْرَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ صِيْغَةُ الْأَمْرِ بِهَا مُطْلَقَةً، وَدَلَّ عَلَى تَحْتِيْمِ فِعْلِهَا مَا وَرَدَ فِي عِدَّةِ نُصُوْصٍ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمُكَلَّفِ الْعِقَابِ بِتَرْكِهَا.
فَمَتَى طَلَبَ الشَّارِعُ الْفِعْلَ وَدَلَّتِ الْقَرِيْنَةُ عَلَى أَنَّ طَلَبَهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْتِيْمِ كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْقَرِيْنَةُ صِيْغَةَ الطَّلَبِ نَفْسَهَا أُمْ أَمْرًا خَارِجِيًّا. ["عِلْمُ أُصُوْلِ الْفِقْهِ وَخُلاَصَةُ تَارِيْخِ التَّشْرِيْعِ"(ص: 101-102)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (شَرْعًا) أَيْ مَا وَرَدَ ذَمُّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِي إجْمَاعِ الأُمَّةِ، وَلِأَنَّ الذَّمَّ لاَ يَثْبُتُ إلاَّ بِالشَّرْع. ["مُخْتَصَرُ التَّحْرِيْرِ شَرْحُ الْكَوْكَبِ الْمُنِيْرِ" (1/346)].
الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الْوَاجِبُ الْمُؤَقَّتُ هُوَ وَاجِبَانِ: فِعْلُ الْوَاجِبِ وَفِعْلُهُ فِيْ وَقْتِهِ، فَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ بَعْدَ وَقْتِهِ، فَقَدْ فَعَلَ أَحَدَ الْوَاجِبَيْنَ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمَطْلُوْبِ؛ وَتَرَكَ الْوَاجِبَ الْآخَرَ وَهُوَ فِعْلُهُ فِيْ وَقْتِهِ، فَيَأْثَمُ بِتَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
الثَّانِي: الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ عَنِ التَّوْقِيْتِ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ لِفِعْلِهِ، وَلِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَفْعَلُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ فِيْ أَيِّ وَقْتٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النِّسَاءُ: 103]. فَأَمَرَ بِفِعْلِ الصَّلَوَاتِ فِيْ مَوَاقِيْتِهَا مُطْلَقًا وَعُمُوْمًا، وَأَمَرَ بِهِ مُفَصَّلاً وَخُصُوْصًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي عَيَّنَتْهَا. ["جَامِعُ الْمَسَائِلِ لِأَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْحَرَّانِيِّ" (6/313)].
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْمَوْقُوتُ قَدْ فَسَّرَهُ السَّلَفُ بِالْمَفْرُوضِ وَفَسَّرُوهُ بِمَا لَهُ وَقْتٌ، وَالْمَفْرُوضُ هُوَ الْمُقَدَّرُ الْمُحَدَّدُ؛ فَإِنَّ التَّوْقِيتَ وَالتَّقْدِيرَ وَالتَّحْدِيدَ وَالْفَرْضَ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ مُقَدَّرَةٌ مُحَدَّدَةٌ مَفْرُوْضَةٌ مَوْقُوْتَةٌ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِهَا وَأَفْعَالِهَا، وَكَمَا أَنَّ زَمَانَهَا مَحْدُودٌ، فَأَفْعَالُهَا أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مَحْدُودَةٌ مَوْقُوتَةٌ. ["الْقَوَاعِدُ النُّوْرَانِيَّةُ" (ص: 65)].
يَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ مِنْ جِهَةِ الْمَطَالِبِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ مِنْ فَرْدٍ مِنْ كُلِّ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِيْنَ، وَلاَ يَجْزِئُ قِيَامُ مُكَلَّفٍ بِهِ عَنْ آخَرَ، كَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ.
الثَّانِي: الْوَاجِبُ الْكِفَائِيُّ هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ مِنْ مَجْمُوْعِ الْمُكَلَّفِيْنَ، لاَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ، كَالصَّلاَةِ عَلَى الْمُتَوَفّى وَغَيْرِهَا.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ)، هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُوْلَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِيْنَ مِثْلِ: الصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [الْبَقَرَةُ: 43].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَةُ: 183].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا». [رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1337) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ].
وَسُمِّيَ بِالْوَاجِبِ الْعَيْنِي، لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي تَعَلَّقُ بِهِ الْإِيْجَابِ مَنْسُوْبٌ إِلَى الْعَيْنِ وَالذَّاتِ بِاعْتِبَارٍ أَنَّ ذَاتَ الْفَاعِلِ مَقْصُوْدَةٌ.
فَهَذَا الْوَاجِبُ يَلْزِمُ الْإِتْيَانُ بِهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِيْنَ بِعَيْنِهِ، بِحَيْثُ لاَ تَبَرَّأُ ذِمَّتُهُ إِلاَّ بِفِعْلِهِ. ["الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ" (1/161)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْوَاجِبُ الْكِفَائِيُّ) هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ مِنْ مَجْمُوْعِ الْمُكَلَّفِيْنَ، لاَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ، بِحَيْثُ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُكَلَّفِيْنَ فَقَدْ أَدَى الْوَاجِبَ وَسَقَطَ الْإِثْمَ وَالْحَرَجَ عَنِ الْبَاقِيْنَ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَيِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِيْنَ أَثِمُوا جَمِيْعًا بِإِهْمَالِ هَذَا الْوَاجِبِ، كَالصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوْفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَغَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (كَالصَّلاَةِ عَلَى الْمُتَوَفّى)، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: “وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمَوْتَى عِنْدَ قُبُورِهِمْ. وَهَذَا مَشْرُوعٌ بَلْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مُتَوَاتِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ”. ["مَجْمُوْعُ الْفَتَاوَى" (27/379)].
وَقَوْلُنَا: (وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوْفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ)، هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِيْنَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ مُخَاطِبٌ بِقَدْرِ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُوْنُ ذَلِكَ لِهَوَاهُ، لاَ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيْلَ الْمُنْكَرَ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْه: مِثْلُ أَنْ يَقُوْمَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ يُرِيْدُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ السَّارِقَ، وَيَجْلِدَ الشَّارِبَ، وَيُقِيْمَ الْحُدُوْدَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَفْضَى إِلَى الْهَرْجِ وَالْفَسَادِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَضْرِبُ غَيْرَهُ وَيَدَّعِي أَنَّهُ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِيْهِ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ الْمُطَاعِ كَالسُّلْطَانِ وَنَوَابِهِ. ["الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى مَجْمُوْعِ الْفَتَاوَى" (3/203)].
قَالَ ابْنُ أَبِيِالْعِزِّ رَحِمَهُ اللهُ: وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إِيمَانًا عَامًّا مُجْمَلًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى التَّفْصِيْلِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي تَبْلِيغِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَدَاخِلٌ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ، وَعِلْمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَحِفْظِ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وإِلَى سَبِيلِ الرَّبِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهُمْ. ["شَرْحُ الطَّحَاوِيَّةِ" (ص: 18)].
وَقَوْلُنَا: (وَتَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ)، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَعَلُّمَ الْعَرَبِيَّةِ؛ وَتَعْلِيمَ الْعَرَبِيَّةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ وَكَانَ السَّلَفُ يُؤَدِّبُونَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى اللَّحْنِ. فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَنْ نَحْفَظَ الْقَانُونَ الْعَرَبِيَّ؛ وَنُصْلِحَ الْأَلْسُنَ الْمَائِلَةَ عَنْهُ؛ فَيَحْفَظُ لَنَا طَرِيقَةَ فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْعَرَبِ فِي خِطَابِهَا. فَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى لَحْنِهِمْ كَانَ نَقْصًا وَعَيْبًا. ["مَجْمُوْعُ الْفَتَاوَى" (32/252)].
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: فَإِنَّ نَفْسَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الدِّيْنَ، وَمَعْرِفَتُهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ، فَإِنَّ فَهْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْضٌ، وَلاَ يَفْهَمُ إِلاَّ بِفَهْمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. ثُمَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَاهُ أَبُوْ بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عِيْسَى بْنُ يُوْنُسَ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ عَمْرِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِيْ مُوْسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “أَمَّا بَعْدُ: فَتَفَقَّهُوْا فِي السُّنَّةِ وَتَفَقَّهُوْا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَعْرَبُوْا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ”.
وَفِيْ حَدِيْثٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: “تَعَلَّمُوْا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا مِنْ دِيْنِكُمْ، وَتَعَلَّمُوْا الْفَرَائِضَ فَإِنَّهَا مِنْ دِيْنِكُمْ”.
وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَفِقْهِ الشَّرِيْعَةِ، يَجْمَعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدِّيْنَ فِيْهِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ، فَفِقْهُ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الطَّرِيْقُ إِلَى فِقْهِ أَقْوَالِهِ، وَفِقْهُ السُّنَّةِ هُوَ فِقْهُ أَعْمَالِهِ. ["اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيْمِ" (1/528-527)].
الْمَنْدُوْبُ
الْمَنْدُوْبُ هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِ طَلَبًا غَيْرَ حَتْمٍ، كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [الْبَقَرَةُ: 282].
الشَّرْحُ:
وَأَمَّا الْمَنْدُوْبُ إِلَيْهِ فِيْ عُرْفِ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ فِعْلُ بَعْثِ الْمُكَلَّفِ مِنْ غَيْرِ إِيْجَابٍ وَإِذَا أُطْلِقَ أَفَادَ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَدْبٌ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ تَسْمِيَةُ الْمَنْدُوْبِ طَاعَةً. [انْظُرْ "الْمُعْتَمَدَ" (1/4)، وَ"التَّلْخِيْصَ فِيْ أُصُوْلِ الْفِقْهِ" (1/261)].
وَقَوْلُنَا: (تَسْمِيَةُ الْمَنْدُوْبِ طَاعَةً)، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ». [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (6502)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ].
الْمَنْدُوْبُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: الْمَنْدُوْبُ الْمَطْلُوْبُ.
الثَّانِي: الْمَنْدُوْبُ الْمَشْرُوْعُ.
الثَّالِثُ: الْمَنْدُوْبُ الزَّائِدُ.
الْأَوَّلُ: الْمَنْدُوْبُ الْمَطْلُوْبُ
مَنْدُوْبٌ مَطْلُوْبُ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيْدِ وَهُوَ لاَ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ الْعِقَابَ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ اللَّوْمُ وَالْعِتَابُ، وَمِنْ هَذَا السُّنَنِ وَالْمَنْدُوْبَاتِ الَّتِي تُعَدُّ شَرْعًا مُكَمِّلَةَ الْوَاجِبَاتِ كَالْأَذَانِ، وَصَلاَةِ الْعَيْدِ، وَمِنْهُ كُلُّ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شُئُوْنِهِ الدِّيْنِيَّةِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (لاَ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ الْعِقَابَ)، وَالدَّلِيْلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيْثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ». قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: «لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ». [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (46)، وَمُسْلِمٌ (11)].
وَهَذَا الْحَدِيْثُ فِيْ أَوَّلِ التَّشْرِيْعِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْاِسْتِهَانَةَ بِالنَّوَافِلِ وَالْمَنْدُوْبَاتِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لِلْفَرَائِضِ وَتَرْكُهَا بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِيْ صَاحِبِهَا. ["قَطَفَاتٌ" لِشَيْخِنَا أَبِيْ عَبْدِ اللهِ كَمَالِ بْنِ ثَابِتٍ الْعَدْنِيِّ رَحِمُهُ اللهُ (ص: 50)].
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: السُّنَّةُ هِيَ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ مَا أُمِرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَلَا يَجُوزُ اعْتِقَادُ ضِدِّ ذَلِكَ لَكِنْ يَجُوزُ تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجُوزَ اعْتِقَادُ تَرْكِ اسْتِحْبَابِهِ؛ وَمَعْرِفَةُ اسْتِحْبَابِهِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ الدِّينِ. ["مَجْمُوْعُ الْفَتَاوَى" (4/436)].
قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: “وَكَمَا أَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِ الْمَنْدُوبِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ فِي الْفِعْلِ كَذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ فِي التَّرْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ التَّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُفْهَمْ كَوْنُ الْمَنْدُوبِ مَنْدُوبًا، هَذَا وَجْهٌ.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ إِخْلَالًا بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ فِيهِ وَمِنَ الْمَنْدُوبَاتِ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالْكُلِّ؛ فَيُؤَدِّي تَرْكُهُ مُطْلَقًا إِلَى الْإِخْلاَلِ بِالْوَاجِبِ، بَلْ لاَ بُدَّ فِيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ فَيَعْمَلُوا بِهِ، وَهَذَا مَطْلُوْبٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ. ["الْمُوَافَقَاتُ" (4/108)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (كَالْأَذَانِ)، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: الصَّحِيْحُ أَنَّ الْأَذَانَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَيْسَ لِأَهْلِ مَدِينَةٍ وَلَا قَرْيَةٍ أَنْ يَدَعُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ أَطْلَقَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ سُنَّةٌ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا، وَالنِّزَاعُ مَعَ هَؤُلَاءِ قَرِيبٌ مِنْ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا، وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ شَرْعًا. فَالنِّزَاعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ وَاجِبٌ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا إثْمَ عَلَى تَارِكِيهِ، وَلَا عُقُوبَةَ، فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ. فَإِنَّ الْأَذَانَ هُوَ شِعَارُ دَارِ الْإِسْلَامِ، الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّقُ اسْتِحْلَالَ أَهْلِ الدَّارِ بِتَرْكِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا لَمْ يُغِرْ؛ وَإِلَّا أَغَارَ.
وَفِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَذَّنُ، وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ، إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْك بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْمُجَادِلَةُ: 19]. ["الْفَتَاوَى الْكُبْرَى" (2/41)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (وَصَلَاةِ الْعِيْدِ)، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَلِهَذَا رَجَّحْنَا أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ لَا تَجِبُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَالنَّاسُ يَجْتَمِعُونَ لَهَا أَعْظَمَ مِنْ الْجُمُعَةِ وَقَدْ شُرِعَ فِيهَا التَّكْبِيرُ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّهُ لَوْ حَضَرَهَا فِي الْمِصْرِ الْعَظِيمِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِحُضُورِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ. ["مَجْمُوْعُ الْفَتَاوَى" (23/161-162)].
الثَّانِي: الْمَنْدُوْبُ الْمَشْرُوْعُ
مَنْدُوْبٌ مَشْرُوْعُ فِعْلِهِ، وَفَاعِلُهُ يُثَابُ وَتَارِكُهُ لاَ يُسْتَحَقُّ عِقَابًا وَلاَ لَوْمًا: وَمِنْ هَذَا مَا يُوَاظَبُ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِهِ بَلْ فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ وَتَرَكَهُ، كَالصِّيَامِ يَوْمَ الْخَمِيْسِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (كَالصِّيَامِ يَوْمَ الْخَمِيْسِ)، وَالدَّلِيْلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (747)، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ].
الثَّالِثُ: الْمَنْدُوْبُ الزَّائِدُ
الْمَنْدُوْبُ الزَّائِدُ هُوَ الْاِقْتِدَاءُ بِالرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ أُمُوْرِهِ الْعَادِيَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهُ بِصِفَتِهِ إِنْسَانًا، كَانَ يَأْكُلُ، وَيَشْرَبُ، وَيَنَامُ وَغَيْرُهَا.
الشَّرْحُ:
وَالدَّلِيْلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هَا هُنَا حَدِيْثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (5063)، وَمُسْلِمٌ (1401)].
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَمَعْنَاهُ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا إِعْرَاضًا عَنْهَا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ عَلَى مَا هِيَ، وَاللهُ أَعْلَمُ. ["شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ" (9/174)].
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: أَمَّا مَنْ تَرَكَ النِّكَاحَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ كَمَا سَبَقَ أَوْ تَرَكَ النَّوْمَ عَلَى الْفِرَاشِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ لِاشْتِغَالِهِ بِعِبَادَةٍ مَأْذُونٍ فِيهَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الذَّمُّ وَالنَّهْيُ. ["شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ" (9/176)].
الْمُحَرَّمُ
الْمُحَرَّمُ هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ الْكَفَّ عَنْ فِعْلِهِ طَلَبًا حَتْمًا، بِأَنْ تَكُوْنَ صِيْغَةُ طَلَبِ الْكَفِّ نَفْسُهَا دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ حَتْمٌ، كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [الْمَائِدَةُ: 3].
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (صِيْغَةُ طَلَبِ الْكَفِّ نَفْسُهَا….)، مَا دَلَّ عَلَى طَلَبِ الْكَفِّ بِصِيْغَةِ الْأَمْرِ، مِثْلُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ». [رَوَاهُ النَّسَائِيُّ (5711)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2518)، وقال: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ].
وَقَدْ يُسْتَفَادُ طَلَبُ الْكَفِّ بِغَيْرِ صِيْغَةِ النَّهْيِ، مِثْلُ أَنْ يُوْصَفَ الْفِعْلُ بِالتَّحْرِيْمِ، كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النِّسَاءُ: 23]، أَيْ لاَ تَنْكِحُوْنَهُنَّ، فَهَذَا هُوَ النَّهْيُ.
قَالَ ابْنُ الْعُثَيْمِيْنِ رَحِمَهُ اللهُ: صِيْغَةُ النَّهْيِ عِنْدَ الْإِطْلاَقِ تَقْتَضِي تَحْرِيْمَ الْمَنْهِي عَنْهُ وَفَسَادَهُ.
فَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّحْرِيْمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرُ: 7]، فَالْأَمْرُ بِالْاِنْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، يَقْتَضِي وُجُوْبَ الْاِنْتِهَاءِ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ تَحْرِيْمُ الْفِعْلِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»؛ أَيْ: مَرْدُوْدٌ، وَمَا نَهَى عَنْهُ؛ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُوْنُ مَرْدُوْداً. ["الْأُصُوْلُ مِنْ عِلْمِ الْأُصُوْلِ" (ص: 29)].
الْمُحَرَّمُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مُحَرَّمٌ أَصَالَةٌ لِذَاتِهِ أَيْ أَنَّهُ فِعْلٌ حَكَمَهُ الشَّرْعِيُّ التَّحْرِيْمَ مِنَ الْاِبْتِدَاءِ، كَالزِّنَا وَالسَّرَقَةِ، وَغَيْرِهِمَا.
الثَّانِي: الْمُحَرَّمُ لِعَارِضٍ فَهُوَ فِي ذَاتِهِ مَشْرُوْعٌ فَيَصْلُحُ سَبَبًا شَرْعِيًّا وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيْمَ عَارِضٌ لَهُ وَلَيْسَ ذَاتِيًا، كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيْهِ غَشٌّ، وَغَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (كَالزِّنَا)، لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِيْ كِتَابِهِ الْكَرِيْمِ أَنَّ أَصْلَهُ مُحَرَّمٌ، وَأَنَّهُ فَاحِشَةٌ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الْإِسْرَاءُ: 32].
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النُّوْرُ: 2].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيْهِ غَشٌّ)، لِأَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ حَلاَلٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [الْبَقَرَةُ: 275]. وَقَدْ بَيَّنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْغَشَّ فِي الْبَيْعِ حَرَامٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا». [رَوَاهُ مُسْلِمٌ (101)].
وَعَنْهُ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا هُوَ مَغْشُوشٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ». [رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه (2224)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (وَالسَّرَقَةِ)، وَقَدْ حَكَمَهُ الشَّرْعِيُّ التَّحْرِيْمَ مِنَ الْاِبْتِدَاءِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ المَرْأَةُ المَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا». [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (3475)، وَمُسْلِمٌ (1688)].
الْمَكْرُوْهُ
الْمَكْرُوْهُ هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْكَفَّ عَنْ فِعْلِهِ طَلَبًا غَيْرَ حَتْمٍ، وَيُثَابُ تَارِكُهُ امْتِثَالاً، وَلاَ يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ، كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَةُ: 101].
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْمَكْرُوْهُ)، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: فَالسَّلَفُ كَانُوْا يَسْتَعْمِلُونَ الْكَرَاهَةَ فِي مَعْنَاهَا الَّذِي اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ اصْطَلَحُوْا عَلَى تَخْصِيصِ الْكَرَاهَةِ بِمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَتَرْكُهُ أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِهِ، ثُمَّ حَمَلَ مَنْ حَمَلَ مِنْهُمْ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ. ["إِعْلاَمُ الْمُوَقِّعِيْنَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ" (1/34)].
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَةُ: 101])، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَسْئُوْلِ عَنْهَا: هَلْ هِيَ أَحْكَامٌ قَدَرِيَّةٌ أَوْ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقِيلَ: إنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، أَيْ سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهَا فَيَكُونُ سُؤَالُهُمْ عَنْهَا سَبَبُ تَحْرِيْمِهَا، وَلَوْ لَمْ يَسْأَلُوا لَكَانَتْ عَفْوًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَقَالَ: لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»؛ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمَذْكُورُ: «إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا» الْحَدِيثَ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُّوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»، وَفُسِّرَتْ بِسُؤَالِهِمْ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ؛ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ: “مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ”؟ وَقَوْلِ آخَرَ: “أَيْنَ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فِي النَّارِ”.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّهْيَ عَنِ النَّوْعَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَةُ: 101].
أَمَّا فِي أَحْكَامِ الْخَلْقِ وَالْقَدَرِ فَإِنَّهُ يَسُوءُهُمْ أَنْ يَبْدُوَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ، وَأَمَّا فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ يَسُوءُهُمْ أَنْ يَبْدُوَ لَهُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفُهُ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ. ["إِعْلاَمُ الْمُوَقِّعِيْنَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ" (1/57)].
الثَّانِي: الْحُكْمُ التَّخْيِيْرِيُّ
الْحُكْمُ التَّخْيِيْرِيُّ: مَا أَذَنَ الشَّارِعُ فِيْ فِعْلِهِ وَتَرَكَهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِذَمٍّ أَوْ مَدْحٍ عَلَى فَاعِلِهِ أَوْ تَارِكِهِ، وَهُوَ الْمُبَاحُ عِنْدَهُمْ، وَمِثَالُ مَا اقْتَضَى تَخْيِيْرُ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ فِعْلٍ وَالْكَفِّ عَنْهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الْجُمْعَةُ: 10].
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ الْمُبَاحُ عِنْدَهُمْ)، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَتُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنْ لَفْظِ الْإِحْلاَلِ وَرَفْعِ الْجنَاحِ وَالْإِذْنِ وَالْعَفْوِ وَإِنْ شِئْتَ فَافْعَلْ وَإِنْ شِئْتَ فَلاَ تَفْعَلْ مِنَ الْاِمْتِنَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ نَحْوُ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً}، وَنَحْوُ: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}.
وَمِنَ السُّكُوْتِ عَنِ التَّحْرِيْمِ وَمِنَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ فِيْ زَمَنِ الْوَحْيِ وَهُوَ نَوْعَانِ إِقْرَارُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِقْرَارُ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عُلِمَ الْفِعْلُ. فَمِنْ إِقْرَارِ الرَّبِّ تَعَالَى قَوْلُ جَابِرٍ: “كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ”، وَمِنْ إِقْرَارِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ حَسَّانِ لِعُمَرَ: “كُنْتُ أَنْشَدُ وَفِيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ”. ["بَدَائِعُ الْفَوَائِدِ" (4/6)].
قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: إِنَّ الْإِبَاحَةَ بِحَسْبِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ يَتَجَاذَبُهَا الْأَحْكَامُ الْبَوَاقِي؛ فَالْمُبَاحُ يَكُونُ مُبَاحًا بِالْجُزْءِ، مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَوِ الْوُجُوبِ، وَمُبَاحًا بِالْجُزْءِ، مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْكُلِّ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ أَوِ الْمَنْعِ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
فَالْأَوَّلُ: كَالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ؛ مِنَ الْمَأْكَلِ، وَالْمَشْرَبِ، وَالْمَرْكَبِ، وَالْمَلْبَسِ، مِمَّا سِوَى الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمَنْدُوبِ الْمَطْلُوبِ فِي مَحَاسِنِ الْعِبَادَاتِ، أَوِ الْمَكْرُوهِ فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ؛ كَالْإِسْرَافِ؛ فَهُوَ مُبَاحٌ بِالْجُزْءِ، فَلَوْ تُرِكَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَكَانَ جَائِزًا كَمَا لو فعل، فلو ترك جملة؛ لَكَانَ عَلَى خِلَافِ مَا نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؛ فَأَوْسِعُوا على أنفسكم»، و: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ»، وَقَوْلِهِ فِي الْآخَرِ حِينَ حَسَّنَ مِنْ هَيْئَتِهِ: «أَلَيْسَ هَذَا أَحْسَنُ؟»، وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»، بَعْدَ قَوْلِ الرَّجُلِ: «إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً»، وَكَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا لَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ ذَلِكَ؛ لَكَانَ مَكْرُوهًا.
وَالثَّانِي: كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَوَطْءِ الزَّوْجَاتِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَوُجُوهِ الِاكْتِسَابَاتِ الْجَائِزَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الْبَقَرَةِ: 275]، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [الْمَائِدَةِ: 96]، {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [الْمَائِدَةِ: 1].
وَكَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ، كُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةٌ بِالْجُزْءِ؛ أَيْ: إِذَا اخْتَارَ أَحَدٌ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا سِوَاهَا؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ، أَوْ تَرَكَهَا الرَّجُلُ فِيْ بَعْضِ الْأَحْوَالِ أوْ الْأَزْمَانِ أَوْ تَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ؛ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ، فَلَوْ فَرَضْنَا تَرْكَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ذَلِكَ؛ لَكَانَ تَرْكًا لِمَا هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا، فَكَانَ الدُّخُولُ فِيهَا وَاجِبًا بِالْكُلِّ.
وَالثَّالِثُ: كَالتَّنَزُّهِ فِي الْبَسَاتِيْنَ، وَسِمَاعِ تَغْرِيْدِ الْحَمَامِ، وَالْغِنَاءِ الْمُبَاحِ، وَاللَّعِبِ الْمُبَاحِ بِالْحَمَّامِ، أَوْ غَيْرِهَا؛ فَمِثْلُ هَذَا مُبَاحٌ بِالْجُزْءِ، فَإِذَا فُعِلَ يَوْمًا مَا، أَوْ فِي حَالَةٍ مَا؛ فَلَا حَرَجَ فِيهِ, فَإِنْ فُعِلَ دَائِمًا كَانَ مَكْرُوهًا، وَنُسِبَ فَاعِلُهُ إِلَى قِلَّةِ الْعَقْلِ، وَإِلَى خِلَافِ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَإِلَى الْإِسْرَافِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ.
وَالرَّابِعُ: كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً؛ فَإِنَّهَا لَا تَقْدَحُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُعَدَّ صَاحِبُهَا خَارِجًا عَنْ هَيْئَاتِ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، وَأُجْرِي صَاحِبُهَا مُجْرَى الْفُسَّاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ شَرْعًا، وَقَدْ قَالَ الْغَزَّالِيُّ: “إِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمُبَاحِ قَدْ تُصَيِّرُهُ صَغِيرَةً، كَمَا أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الصَّغِيْرَةِ تَصِيْرُهُ كَبِيْرَةً”، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: “لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ”. ["الْمُوَافَقَاتُ" (1/206-210)].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} أَيْ: فُرِغَ مِنْهَا، {فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} لَمَّا حَجَرَ عَلَيْهِمْ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ النِّدَاءِ وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ، أَذِنَ لَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ فِي الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ وَالِابْتِغَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. ["تَفْسِيْرُ ابْنِ كَثِيْرٍ" (8/122)].
الثَّالِثُ: الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ
الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ: هُوَ خِطَابُ اللهِ الْمُتَعَلِّقُ بِجَعْلِ الشَّيْءِ سَبَبًا لِشَيْءٍ آخَرَ، أَوْشَرْطًا لَهُ، أَوْ مَانِعًا مِنْهُ أَوْ عَزِيْمَةً أَوْ رُخْصَةً.
أَقْسَامُهُ:
الْأَوْلُ: السَّبَبُ، وَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ جَعَلَ الشَّارِعُ وُجُوْدَهُ عَلاَمَةً عَلَى وُجُوْدِ الْحُكْمِ، وَانْتِفَاءُهُ عَلاَمَةً عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ، كَدُخُوْلِ وَقْتِ الصَّلاَةِ سَبَبًا لِوُجُوْبِهَا.
الثَّانِي: الشَّرْطُ، وَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ يَلْزِمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَلاَ يَلْزِمُ مِنْ وُجُوْدِهِ وُجُوْدُ الْحُكْمِ وَلاَ عَدَمُهُ، كَالْوُضُوْءِ لِلصَّلاَةِ.
الثَّالِثُ: الْمَانِعُ، وَهُوَ مَا يَلْزِمُ مِنْ وُجُوْدِهِ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَلاَ يَلْزِمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُوْدُ الْحُكْمِ وَلاَ عَدَمُهُ، كَالدَّيْنِ مَعَ وُجُوْبِ الزَّكَاةِ.
الرَّابِعُ: الْعَزِيْمَةُ وَالرُّخْصَةُ.
الْعَزِيْمَةُ فِيْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَا هُوَ مَشْرُوْعٌ مِنْهَا ابْتِدَاءٌ مِنْ غَيْرٍ أَنْ يَكُوْنَ مُتَّصِلاً بِعَارِضٍ.
وَالرُّخْصَةُ مَا كَانَ بِنَاءٍ عَلَى عُذْرٍ يَكُوْنُ لِلْعِبَادِ وَهُوَ مَا اسْتَبِيْحُ لِلْعُذْرِ مَعَ بَقَاءِ الدَّلِيْلِ الْمُحَرَّمِ وَلِلْتَفَاوَتِ فِيْمَا هُوَ أَعْذَارِ الْعِبَادِ يَتَفَاوَتُ حُكْمُ مَا هُوَ رُخْصَةٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْمَانِعُ)، وَالْمَانِعُ عَكْسُ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ عَدَمُ وُجُودِ الْحُكْمِ، كَالدَّيْنِ مَعَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ.
وَوَجْهُ الْعَكْسِ فِيهِ: أَنَّ الشَّرْطَ يَنْتَفِي الْحُكْمُ بِانْتِفَائِهِ، وَالْمَانِعُ يَنْتَفِي الْحُكْمُ لِوُجُودِهِ، فَوُجُودُ الْمَانِعِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ فِي اسْتِلْزَامِهَا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ، وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَوُجُودُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُمَا وُجُودُ الْحُكْمِ وَلَا عَدَمُهُ.
وَالْمَانِعُ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: مَانِعِ الْحُكْمِ وَمَانِعِ السَّبَبِ، وَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ وُجُودِيٍّ يُخِلُّ وُجُودُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَقْتَضِي السَّبَبُ الْمُسَبِّبَ، كَحَيْلُولَةِ النِّصَابِ الْغَصْبَ وَالْإِبَاقَ، فَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ النِّصَابِ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ.
ثُمَّ الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءُ الْحُكْمِ وَاسْتِمْرَارُهُ، كَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَيَقْطَعُهُ دَوَامًا.
ثَانِيهَا: مَا يَمْنَعُهُ ابْتِدَاءً لَا دَوْمًا، كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لِغَيْرِ مَنْ هِيَ مِنْهُ، وَلَوْ طَرَأَتْ عَلَى نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ لَمْ يَقْطَعْهُ، وَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ.
ثَالِثُهَا: مَا يَمْنَعُهُ دَوَامًا لَا ابْتِدَاءً، كَالْكُفْرِ بِالنِّسْبَةِ لَمَالِكِ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ لَا يَمْنَعُ فِي الِابْتِدَاءِ لِتَصْوِيرِهِ بِالْإِرْثِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى نَحْوِ الْأَرْبَعِينَ، وَيُمْتَنَعُ دَوَامُهُ بَلْ يَنْقَطِعُ بِنَفْسِهِ كَشِرَاءِ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ أَوْ بِالْإِجْبَارِ عَلَى إزَالَتِهِ.
هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ. وَزَادَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ وَهِيَ الصِّحَّةُ، وَالْبُطْلَانُ، وَالْعَزِيْمَةُ، وَالرُّخْصَةُ. [انْظُرْ "الْبَحْرَ الْمُحِيْطَ فِيْ أُصُوْلِ الْفِقْهِ" (2/13)].
وَقَوْلُنَا: (الصِّحَّةُ)، وَالصِّحَةُ لُغَةً: عِبَارَةٌ عَنِ السَّلاَمَةِ وَعَدَمِ الْاِخْتِلاَلِ.
وَاصْطِلاحاً: كَوْنُ الْفِعْلِ مُوَافِقاً لِلشَّرْعِ عَلَى وَجْهٍ يُصَحُّ الْاِعْتِدَادِ بِهِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالنُّفُوْذِ فِي الْمُعَامُلاَتِ. ["تَلْخِيْصُ الْأُصُوْلِ" (ص: 29)].
وَقَوْلُنَا: (وَالْبُطْلَانُ)، وَالْبُطْلَانُ أَوِ الْفَسَادُ: عِنْدَ الْجُمْهُوْرِ: الْفَسَادُ يُرَادِفُ الْبُطْلاَنُ، فَهُمَا فِي الْعِبَادَاتِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْاِعْتِدَادِ بِهَا، وَفِي الْمَعَامَلاَتِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ النُّفُوْذِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْبَاطِلُ: مَا لاَ يَكُوْنُ مَشْرُوْعاً لاَ بِأَصْلِهِ، وَلاَ بِوَصْفِهِ.
وَالْفَاسِدُ: مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُوْنَ وَصْفِهِ. ["تَلْخِيْصُ الْأُصُوْلِ" (ص: 30)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (الْعَزِيْمَةُ)، وَالْعَزِيْمَةُ لُغَةً: الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ.
وَاصْطِلاَحاً: الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِدَلِيْلٍ شَرْعِيٍّ خَالٍ عَنْ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ. ["تَلْخِيْصُ الْأُصُوْلِ" (ص: 29)].
وَمِنْ أمْثِلَةِ الْعَزِيْمَةِ:
قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النِّسَاءُ: 43].
قَالَ أَبُوْ الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَسَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى أَوْ أَرْضٍ مِنْ أَعْمَالِ مِصْرِهِ كَالْحَرَّاثِ وَالْحَصَّادِ وَالْحَطَّابِ وَأَشْبَاهِهِمْ، إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَا مَاءَ مَعَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمِصْرِ إِلَّا بِتَفْوِيتِ حَاجَتِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ فِي عَمَلِ مِصْرِهِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ فِي عَمَلِ قَرْيَةٍ أُخْرَى، وَسَوَاءٌ أَمْكَنَهُ حَمْلُ الْمَاءِ لِوُضُوئِهِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْدَادَ لِلْوُضُوءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ لَا يَجِبُ، وَعَنْهُ إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ حَمْلُ الْمَاءِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ حَمْلُ مَاءٍ لِوُضُوئِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَسَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ لِأَنَّهُ عَزِيمَةٌ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ بَلْ يَجِبُ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَيُخَرَّجُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ مِنْ حَيْثُ عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، عَزِيمَةٌ مِنْ حَيْثُ وُجُوبِ فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْعَزِيمَةِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ الْمُتَبَقِّي بِسَبَبِ الرُّخْصَةِ، وَهَذَا يُشْبُهُ مَا إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ عَدِمَهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ. ["شَرْحُ عُمْدَةِ الْفِقْهِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَالْحَجِّ" (728) (1/424)].
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ: (هُوَ رُخْصَةٌ)، وَالرُّخْصَةُ لُغَةً: السُّهُوْلَةُ وَالْيُسْرُ.
وَاصْطِلاَحاً: تَغْيِرُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إِلَى سُهُوْلَةٍ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ. ["تَلْخِيْصُ الْأُصُوْلِ" (ص: 29)].
وَمِنْ أمْثِلَةِ الرُخْصَةِ:
الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا، فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ». [رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1121)].
قَالَ أَبُوْ الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْحَرَّانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: فَفِي هَذَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ فَإِنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَامَ أَوَّلًا فِي السَّفَرِ؛ ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ وَمَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ نَقْصٌ فِي الدِّينِ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ وَإِذَا صَامَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَقِدًا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَتَحْرِيمَ الْفِطْرِ فَقَدْ أَمَرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِالْإِعَادَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَنَّ حَمْزَةَ. بْنَ عَمْرٍو سَأَلَهُ؛ فَقَالَ: إنَّنِي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ} فَإِذَا فَعَلَ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ مِنْ تَعْجِيلِ الصَّوْمِ أَوْ تَأْخِيرِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِنَا الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِنَا الْعُسْرَ. أَمَّا إذَا كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنْ تَأْخِيرِهِ فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ فَإِنَّ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ} وَأَخْرَجَهُ بَعْضُهُمْ إمَّا ابْنُ خُزَيْمَة وَإِمَّا غَيْرُهُ فِي صَحِيحِهِ وَهَذِهِ الصِّحَاحُ مَرْتَبَتُهَا دُونَ مَرْتَبَةِ صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. ["مَجْمُوْعُ الْفَتَاوَى" (22/288)].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوْبُ إِلَيْكَ